فصل: تفسير الآية رقم (4):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (12):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [12].
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلَا يَسْرِقْنَ} قال ابن كثير: أي: أموال الناس الأجانب، فأما إذا كان الزوج معسراً في نفقتها، فلها أن تأكل من ماله بالمعروف، ما جرت به عادة أمثالها، وإن كان من غير علمه، عملاً بحديث هند بنت عتبة أنها قالت: يا رسول الله! إن أبا سفيان رجل شحيح، لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بنيّ، فهل عليّ جناح إن أخذت من ماله بغير علمه؟ فقال رسول الله: «خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك» أخرجاه في الصحيحين {وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ} قال الزمخشريّ: يريد وأد البنات.
وقال ابن كثير: هذا يشمل قتله بعد وجوده، كما كان أهل الجاهلية يقتلون أولادهم خشية إملاق، ويعمّ قتله وهو جنين، كما قد يفعله بعض الجاهلات من النساء، تطّرح نفسها، لئلا تحبل، إما لغرض فاسد أو ما أشبهه.
{وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} قال ابن عباس: أي: لا يلحق بأزواجهن غير أولادهم. وأوضحه الزمخشري بقوله: كانت المرأة تلتقط المولود فتقول لزوجها: هو ولدي منك. كنيّ بالبهتان المفترى بين يديها ورجليها عن الولد الذي تلصقه بزوجها كذباً، لأن بطنها الذي تحمله فيه بين اليدين، وفرجها الذي تلده به بين الرجلين، فهو غير الزنا، فلا تكرار فيه.
وقال الشهاب: في شرح البخاري للكرماني معناه: لا تأتوا ببهتان من قبل أنفسكم. واليد والرجل كناية عن الذات، لأن معظم الأفعال بهما، ولذا قيل للمعاقب بجناية قولية: هذا ما كسبت يداك. أو معناه: لا تنشئوه من ضمائركم وقلوبكم، لأنه من القلب الذي مقره بين الأيدي والأرجل. والأول كناية عن إلقاء البهتان من تلقاء أنفسهم، والثاني عن كونه من دخيلة قلوبهم المبنية عن الخبث الباطني.
وقال الخطابي: معناه لا تبهتوا الناس كفاحاً ومواجهة، كما يقال للآمر بحضرتك: إنه بين يديك. ورد بأنهم، وإن كنوا عن الحاضر بكونه بين يديه فلا يقال: بين أرجله وهو وارد لو ذكرت الأرجل وحدها، أما مع الأيدي تبعاً فلا. فالمخطئ مخطئ وهو كناية عن خرق جلباب الحياء، والمراد: النهي عن القذف، ويدخل فيه الكذب والغيبة. انتهى.
{وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} أي: من أمر الله تأمرهن به.
قال في النهاية: المعروف اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله، والإحسان إلى الناس، وكل ما أمر به الشرع، ونهى عنه.
{فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي: فبايعهن على الوفاء بذلك، وسل الله لهن مغفرة ذنوبهن، والعفو عنها، فإنه غفور رحيم لمن تاب منها.
تنبيهات:
الأول: روى البخاري عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «كان يمتحن من هاجر إليه من المؤمنات بهذه الآية، فمن أقرّ بهذا الشرط من المؤمنات، قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد بايعتك» كلاماً، ولا واللهِ ما مست يده يد امرأة قط في المبايعة، ما يبايعهن إلا بقوله: «قد بايعتك على ذلك».
قال ابن حجر: أي: لا مصافحة باليد، كما جرت العادة بمصافحة الرجال عند المبايعة.
ثم قال: وروى النسائي والطبري أن أميمة بنت رقيقة أخبرته أنها دخلت في نسوة تبايع. فقلن: يا رسول الله! ابسط يدك نصافحك. فقال: «إني لا أصافح النساء، ولكن سآخذ عليكن» فأخذ علينا حتى بلغ {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} فقال: «فيما أطقتنّ واستطعتنّ»، فقلن: الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا- وفي رواية الطبري: ما قولي لمائة امرأة إلا كقولي لامرأة واحدة- وقد جاء في أخبار أخرى أنهن كن يأخذن بيده عند المبايعة من فوق ثوب- أخرجه يحيى بن سلام في تفسيره عن الشعبي.
وفي المغازي لابن إسحاق عن أبان بن صالح أنه كان يغمس يده في إناء، فيغمسن أيديهن فيه. انتهى.
والمعول على رواية البخاري الأولى لصحتها، وضعف ما عداها.
الثاني: روى مسلم عن أم عطية قالت: لما نزلت هذه الآية {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} كان منه النياحة. ولفظ البخاري عنها قالت: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم «فقرأ علينا {أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً} ونهانا عن النياحة».
وأخرج الطبري بسنده إلى امرأة من المبايعات قالت: «كان فيما أخذ علينا أن لا نعصيه في شيء من المعروف، ولا نخمش وجهاً، ولا ننشر شعراً، ولا نشق جيباً، ولا ندعو ويلاً».
وعن قتادة قال: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أخذ عليهن يومئذ أن لا يَنُحْنَّ، ولا يحدثن الرجال إلا رجلاً منكن محرماً. فقال عبد الرحمن بن عوف: يا نبيّ الله! إن لنا أضيافاً وإنا نغيب عن نسائنا؟ فقال: «ليس أولئك عنيت».
الثالث: قال إلكيا الهراسي: يؤخذ من قوله تعالى {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} أنه لا طاعة لأحد في غير المعروف. قال وأمر النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن إلا بمعروف وإنما شرطه في الطاعة، لئلا يرخص أحد في طاعة السلاطين.
وأصله مما أخرجه ابن جرير عن ابن زيد، قال في هذه الآية: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نبيه وخيرته من خلقه، ثم لم يستحل له أمر إلا بشرط، لم يقل: {وَلَا يَعْصِينَكَ} ويترك حتى قال: {فِي مَعْرُوفٍ} فكيف ينبغي لأحد أن يطاع في غير معروف، وقد اشترط الله هذا على نبيه؟
ثم نبه تعالى في آخر السورة بما نبّه به في فاتحتها، من النهي عن موالاة محاربي الدِّين، تحذيراً من التهاون في ذلك، وزيادة اعتناء به، فقال سبحانه:

.تفسير الآية رقم (13):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} [13].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} أي: مسخوطاً عليهم لمعاداتهم الحق، ومحاربتهم الصلاح، وعيثهم الفساد. وهو عام في كل محارب، ومنهم من خصه باليهود، لأنه عبر عنهم في غير هذه الآية بالمغضوب عليهم، واقتصر عليه الزمخشري. قال الناصر: قد كان الزمخشريّ ذكر في قوله، {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ} إلى قوله: {وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طريًّا} [فاطر: 12]، أن آخر الآية استطراد، وهو فن من فنون البيان، مبوّب عليه عند أهله. وآية الممتحنة هذه ممكنة أن تكون من هذا الفن جدًّا، فإنه ذم اليهود، واستطرد ذمهم بذم المشركين، على نوع حسن من النسبة. وهذا لا يمكن أن يوجد للفصحاء في الاستطراد أحسن ولا أمكن منه، ومما صدروا به هذا الفن قوله:
إذا ما اتقى اللهَ الفتى وأطاعه ** فليس به بأس وإن كان من جُرْمِ

وقوله:
إن كنت كاذبَة الذي حدثتني ** فنجوتِ منجى الحارث بن هشامِ

وقوله:
ترك الأحبة أَنْ يقاتِلَ دونهم ** ونَجَا برأسِ طِمِرَّةٍ وَلِجَامِ

انتهى.
وكان وجهة إيثاره الفرار من التأكيد إلى التأسيس، مع أن إرادة ما أريد بأول السورة منه، فيه من المحسنات البديعية ردّ العجز عن الصدر، تذكيراً به وتفخيماً، للعناية بشأنه، ولكل وجهة.
{قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ} أي: من جزائها لجحدهم بها، ولذلك طغوا وبغوا وعاثوا. والجملة صفة ثانية {كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} أي: كما يئس من سلفهم من إخوانهم الكفار المقبورين، أي: أنهم على شاكلة من قبلهم، وكلّ مؤاخذ بكفره. وقيل: المعنى كما يئس الكفار أن يرجع إليهم أصحاب القبور الذين ماتوا. ففيه وضع الظاهر موضع المضمر، تسجيلاً لكفرهم، وبياناً لما اقتضى الغضب عليهم، ولما آيسهم. والأول أظهر.

.سورة الصف:

بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآية رقم (1):

القول في تأويل قوله تعالى: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [1].
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي: أذعِن لله كل خلقه العلوي والسفلي، وانقاد لتسخيره، ودل على ألوهيته وربوبيته. وتقدم بيانه.

.تفسير الآيات (2- 3):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [2- 3].
{لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} قال القاشانيّ: من لوازم الإيمان الحقيقي الصدق وثبات العزيمة؛ إذ خلوص الفطرة عن شوائب النشأة يقتضيهما. وقوله: {كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} يحتمل الكذب، وخلف الوعد. فمن ادعى الإيمان وجب عليه الاجتناب عنهما بحكم الإيمان، وإلا فلا حقيقة لإيمانه، ولهذا قال: {مَا لَا تَفْعَلُونَ} لأن الكذب ينافي المروءة التي هي من مبادئ الإيمان، فضلاً عن كماله؛ إذ الإيمان الأصلي هو الرجوع إلى الفطرة الأولى والدين القيم. وهي تستلزم أجناس الفضائل بجميع أنواعها، التي أقل درجاتها العفة المقتضية للمروءة، والكاذب لا مروءة له، فلا إيمان له حقيقة. وإنما قلنا: لا مروءة له، لأن النطق هو الإخبار المفيد للغير معنى، المدلول عليه باللفظ. والْإِنْسَاْن خاصته التي تميزه عن غيره، هي النطق، فإذا لم يطابق الإخبار، لم تحصل فائدة النطق، فخرج صاحبه عن الْإِنْسَاْنية، وقد أفاد ما لم يطابق من اعتقاد وقوع غير الواقع، فدخل في حد الشيطنة، فاستحق المقت الكبير عند الله، بإضاعة استعداده، واكتساب ما ينافيه من أضداده. وكذا الخلف، لأنه قريب من الكذب، ولأن صدق العزم وثباته من لوازم الشجاعة التي هي إحدى الفضائل اللازمة لسلامة الفطرة، وأول درجاتها، فإذا انتفت انتفى الإيمان الأصلي بانتفاء ملزومه، فثبت المقت من الله. انتهى.
لطيفة:
قال الزمخشريّ: هذا من أفصح الكلام وأبلغه في معناه، قصد في {كَبُرَ} التعجب من غير لفظه. ومعنى التعجب تعظيم الأمر في قلوب السامعين. وأسند إلى {أَن تَقُولُواْ}، ونصب {مَقْتاً} على تفسيره، دلالة على أن قولهم مالا يفعلون مقت خالص، لا شوب فيه، لفرط تمكن المقت منه. واختير لفظ المقت؛ لأنه أشد البغض وأبلغه، ولم يقتصر على أن جعل البغض كبيراً، حتى جعل أشده وأفحشه. و{عِندَ اللَّهِ} أبلغ من ذلك، لأنه إذا ثبت كبر مقته عند الله، فقد تم كبره وشدته.
قال الناصر: وزائد على هذه الوجوه الأربعة وجه خامس، وهو تكرار لقوله:
{مَا لَا تَفْعَلُونَ} وهو لفظ واحد، في كلام واحد. ومن فوائد التكرار التهويل والإعظام.

.تفسير الآية رقم (4):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ} [4].
{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ} قال القاشانيّ: لأن بذل النفس في سبيل الله لا يكون إلا عند خلوص النفس في محبة الله، إذ المرء إنما يحب كل ما يحب من دون الله لنفسه. فأصل الشرك ومحبة الأنداد، محبة النفس. فإذا سمح بالنفس، كان غير محب لنفسه، وإذا لم يحب نفسه فبالضرورة لم يحب شيئاً من الدنيا، وإذا كان بذله للنفس في اللّهو وفي سبيله لا للنفس، كما قال- ترك الدنيا للدنيا- كانت محبة الله في قلبه راجحة على محبة كل شيء، فكان من الذين قال فيهم: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ} [البقرة: 165]، وإذا كانوا كذلك يلزم محبة الله إياهم، لقوله:
{يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54]، انتهى.
تنبيهات:
الأول: في ذكر هذه الآية عقيب مقت المخلف دليل على أن المقت قد تعلق بقول الذين وعدوا الثبات في قتال الكفار، فلم يفوا. انتهى.
وأيده الناصر من الوجهة البيانية بأن الأول كالبسطة العامة لهذه القصة الخاصة، كقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات: 1- 2]، فالنهي العام ورد أولاً، والمقصود اندراج هذا الخاص فيه، كما تقول للمقترف جرماً معيناً: لا تفعل ما يلصق العار بك، ولا تشاتم زيداً. وفائدة مثل هذا النظم النهي عن الشيء الواحد مرتين، مندرجاً في العموم، ومفرداً بالخصوص. وهو أولى من النهي عنه على الخصوص مرتين فإن ذلك معدود في حيز التكرار، وهذا يتكرر مع ما في التعميم من التعظيم والتهويل. انتهى.
الثاني: في الإكليل: قال إلكيا الهراسي: يحتج بقوله تعالى {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2- 3] في وجوب الوفاء بالنذر، ونذر اللجاج. قال غيره: والوعود. انتهى.
قال ابن كثير: هو إنكار على من يعد وعداً، أو يقول قولاً، لا يفي به. ولهذا استدل بهذه الآية الكريمة من ذهب من علماء السلف إلى أنه يجب الوفاء بالوعد مطلقاً، سواء ترتب عليه عزم الموعود أم لا. واحتجوا أيضاً من السنة بما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «آية المنافق ثلاث: إذا وعد أخلف، وإذا حدّث كذب، وإذا اؤتمن خان». ولهذا أكد الله تعالى هذه الإنكار عليهم بقوله تعالى {كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}
وقد روى الإمام أحمد وأبو داود عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا صبي، فذهبت لأخرج لألعب، فقالت أمي: يا عبد الله! تعال أعطك. فقال رسول الله صلى عليه وسلم: «وما أردت أن تعطيه»؟ قالت: تمراً. فقال: «أما إنك لو لم تفعلي، كُتبت عليك كذبة».
وذهب الإمام مالك رحمه الله إلى أنه إذا تعلق بالوعد عزم على الموعود، وجب الوفاء به. كما قال لغيره: تزوج ولك عليّ كل يوم كذا. فتزوج. وجب عليه أن يعطيه ما دام كذلك، لأنه تعلق به حق آدمي.
وذهب الجمهور إلى أنه لا يجب مطلقاً، وحملوا الآية على أنها نزلت حين تمنوا فريضة الجهاد عليهم، فلما فرض، نكل عنه بعضهم، كقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} [النساء: 77]. وقال تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورة فَإِذَا أنزلت سُورة مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} [محمد: 20] الآية، وهكذا هذه الآية معناها كما قال ابن عباس: كان ناس من المؤمنين، قبل أن يفرض الجهاد، يقولون: لوددنا أن الله عز وجل دلّنا على أحب الأعمال إليه فنعمل به فأخبر الله نبيه أن أحب الأعمال إيمان به لا شك فيه، وجهاد أهل معصيته الذين خالفوا الإيمان، ولم يقروا به. فلما نزل الجهاد كره ذلك ناس من المؤمنين، وشق عليهم أمره، فأنزل الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} وقيل: كان المسلمون يقولون: لو نعلم أي: الأعمال أحب إلى الله لأتيناه، ولو ذهبت فيه أنفسنا وأموالنا، فلما كان يوم أحد، تولوا عن النبي صلى الله عليه وسلم، حتى شج وكسرت رَباعيته، فأنزل الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} روي ذلك عن مقاتل بن حيان.
وقيل: نزل هذا توبيخاً لقوم من المنافقين كانوا يعدون المؤمنين النصر وهم كاذبون. يقولون: لو خرجتم خرجنا معكم، وكنا في نصركم، وفي وفي...... روي ذلك عن ابن زيد.
وكل المروي هنا ما تشمله الآية.
وقد روى الإمام أحمد عن عبد الله بن سلام قال: تذاكرنا أيكم يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسأله: أي: الأعمال أحب إلى الله؟ فلم يقم منا أحد، فأرسل إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً فجمعنا فقرأ علينا هذه السورة- يعني سورة الصف- كلها. ولفظ ابن أبي حاتم عن عبد الله بن سلام أن ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: لو أرسلنا إلى رسول الله نسأله عن ذلك. قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر رجلاً رجلاً، حتى جمعهم، ونزلت فيهم هذه السورة- الصف- قال عبد الله بن سلام: فقرأها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها.
وفي رواية ابن أبي حاتم هذه فائدة جليلة: وهي أن قول الصحابي نزلت هذه السورة، بمعنى قرئت في الحادثة، كما بيَّنَتْهُ الرواية قبله. والروايات يفسر بعضها بعضاً. وقد نبهنا على ذلك مراراً.
الثالث: في الإكليل في قوله:
{كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ} استحباب قيام المجاهدين في القتال صفوفاً كصفوف الصلاة، وأنه يستحب سد الفُرَج والخلل في الصفوف، وإتمام صف الأول فالأول، وتسوية الصفوف قدماً بقدم، لا يتقدم بعض على بعض فيها.
قال ابن أبي الفَرَس: واستدل بها على أن قتال الرجالة أفضل من قتال الفرسان؛ لأن التراص إنما يمكن منهم. قال: وهو ممنوع. انتهى.
وفي التشبيه وجهان آخران:
أحدهما: أن يكون المراد الثبات ورسوخ الأقدام في الموقف، تنبيهاً على أن المتزلزل القدم، والمضطرب في الموقف: دع من يعزم على الفرار ممن يمقته الله تعالى، ولا تناله محبته.
ثانيهما: أن يكون المعنى به اجتماع الكلمة، والاتفاق على تسوية الشأن مع العدوّ، حتى يكونوا في الاتحاد وموالاة بعضهم بعضاً كالبنيان المرصوص. وقد أشار لهذين الوجهين الرازيّ. وهما أقرب من الأول، لتقويتهما لمعنى طليعة السورة، من الثبات على الوعد والوفاء به، والعتب على من يخلف فيه، كما تقدم.